Skip to content

هل الدولة في مصر طريق لبراءة المغتصِبين؟

أقل من دقيقة مدة القراءة: دقائق

أحمد مفرح المدير التنفيذي لمؤسسة كوميتي فور جستس يكتب للعربي الجديد

هل الدولة في مصر طريق لبراءة المغتصِبين؟

لم يكن أكثر المتفائلين من رواد مواقع التواصل الإجتماعي يتوقعون أن تكون جريمة الإغتصاب الجماعي في فندق فيرمونت في القاهرة محل اهتمامٍ رسميٍ من الحكومة المصرية، كما حدث لاحقاً، خصوصاً أن كل من كان يعمل على ترويج حقيقة ما حدث فيها يأمل أن تفتح الدولة تحقيقاً في ما حدث، لأكثر من سبب، لعل أهمها أن الطريق الوحيد المعروف لاشتباك الأجهزة الرسمية للدولة في مثل تلك القضايا هي الإنكار أو غلق الملف. ولكن الواقع أن رد الفعل، وإن اختلف في شكله، فلم يختلف كثيراَ في مضمونه، فلم يكن النشطاء والحقوقيون يعلمون أنه، بإدخال المجلس القومي للمرأة، والنيابة العامة في القضية قد فتحت أولى طرق البراءة للمغتصبين، وأولى طرق الاتهام للمغتَصبات.

بدأت القصة في إبريل/ نيسان الماضي بحديث إحدى الناجيات، ولأول مرة، عن عمليات الاغتصاب الجماعي التي تمت معها من عددٍ من الشباب في عام 2014 (منذ ست سنوات)، وأن المتهمين في تلك الواقعة صوّروا عملية الاغتصاب، كما عملوا على كتابة حروفٍ من أسمائهم على جسد الناجية بآلات حادّة، وتم نشر الصور الخاصة بالمتهمين على “السوشيال ميديا” ووسائل التواصل الاجتماعي.

لم يكن النشطاء والحقوقيون يعلمون أنه، بإدخال المجلس القومي للمرأة، والنيابة العامة في القضية قد فتحت أولى طرق البراءة للمغتصبين، وأولى طرق الاتهام للمغتَصبات.

تطوّرت القضية وتدخلت النيابة العامة في التحقيق في تلك الواقعة، بناء على تقديم المجلس القومي للمرأة (هيئة تابعة للدولة يتم تمويل أنشطتها من جهات التمويل منها الاتحاد الأوروبي) بلاغ إلى النائب العام في 4 أغسطس/ آب الماضي، يطالب بالتحقيق في الواقعة، بناء على الشكوى التي قدمتها الناجية للمجلس في يونيو/ حزيران الماضي. ويظهر أن مؤسسات الدولة قد انزعجت من هذه القضية، لارتباط أسماء المتهمين فيها بالإغتصاب بمسؤولين ورجال أعمال، وأيضاً لاعتبار آخر أهم، أن القضية أثارت اهتمام وكالات الأنباء العالمية والمحلية، ومن ثم خرجت بفعل تفاعل “السوشيال ميديا” معها من الإطار المحلي إلى الإطار الدولي، وهو المزعج بالنسبة للسلطات المصرية، خصوصاً وأن قضية المرأة من القضايا التي تخدم الدبلوماسية المصرية في الخارج، بتقديم نفسها عبر ما تسميها “إنجازات” قام بها نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، متمثلاً في الاهتمام بصحة المرأة، أو في ما يسمى مشروع “التاء المربوطة” الذي يعمل عليه المجلس القومي للمرأة. ومن هنا، بات من الملحّ العمل على إيقاف هذه الحملة، وأن تتدخل مؤسسات الدولة، من أجل إظهار أنها الحامية لحقوق “المغتصبات” (شكلياً)، حتى وإن كان التدخل مدفوعاً بسبب آخر تماماً، وهو إغلاق هذه القضية، وجعلها تبدو “مثالاً” لقمع الناجيات والشاهدات، إن فكّرن في التفاعل مستقبلاً مع أيٍ من حملات “السوشيال ميديا” الخاصة بحماية الفتيات والناجيات من التحرّش الجنسي والاغتصاب أو الحملات الداعية لإعطائهن الحماية القانونية والمعنوية، للحديث عما تعرّضن له من جرائم ومطالبة المجتمع بالوقوف معهن ضد المتهمين.

نجح المغتصِبون في “تشويه” الضحية والشهود معنوياً وأخلاقياً، واستجابت لهم النيابة العامة في هذا الصدد، بل زادت عليه

منذ جاء المستشار حمادة الصاوي رئيساً لها في سبتمبر/ أيلول 2019، عملت النيابة العامة على إظهار نفسها حامية الأخلاق والقيم في المجتمع، وبدلاً من مساندة الضحية وشهودها إزاء المعتدين، حبست أولاً الضحية (التي صارت متهمة) وستة آخرين أربعة أيام على ذمة التحقيقات، لاتهامات ارتأت “سترها على الإعلان عنها”، في بيانها الصادر في 30 مايو/ أيار الماضي، باعتبار أنها والجناة متهمون، سواءً بسواء، في جرائم مخلة بالآداب. ولم يخل البيان من تبرير القانون 175 لسنة 2018 الخاص بمكافحة جرائم تقنية المعلومات، والذي تنص المادة 25 منه على عقوبات لـ”كل من اعتدى على المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع”، والذي بموجبه خصصت النيابة العامة أكثر من نصف بيانها لتوجيه المجتمع وأولياء الأمور، بالتحذير والإنذار بشأن “أمورٍ تسللت إلى شبابنا رغبة في إشاعة الفاحشة فيهم تحت دعاوى تحرر يائس..”. والتأكيد على “الرقابة الاجتماعية” باعتبارها “مسؤولية الأهل والمجتمع والمؤسسات”. ثم صدر بيان آخر ليس أقل وصايةً، باستبدال حبس الضحية/ المتهة احتياطياً بإيداعها أحد المراكز المتخصصة لـ “استضافة وحماية المرأة المعنفة”، كون سلوكها “بحاجةٍ إلى “تقويم”، ليتناسب مع قيم المجتمع المصري. وتزامن هذا النهج الوصائي من النيابة العامة مع واقعة أخرى في إبريل/ نيسان الماضي، أمرت فيها النيابة العامة بضبط وإحضار إحدى مستعملي برامج التواصل الاجتماعي، كونها اعتدت “على مبادئ وقيم أسرية في المجتمع المصري”، وهي التهمة نفسها الموجهة للمتهمات على ذمة القضية 1047 لسنة 2020 جنح مالية، المعروفة إعلامياً بقضية “فتيات التيك توك”. كما تكرّر استخدم التهمة نفسها أخيراً، مع ضحايا آخرين في 10 يونيو/ حزيران الماضي، ولم تزل النيابة العامة تبرّر سلوكها الرقابي والوصائي في الجانب الأخلاقي والقيمي بالقانون المعيب، بفرض تأويلات قيميةٍ لمصطلحات فضفاضة شملها القانون في المادة المذكورة منه، مع توجيهها لأولياء الأمور، في كل بيان مماثل، على دورهم في “رقابة” أبنائهم، وصونهم من “أصدقاء السوء”، وهو الخطاب الذي لا يليق بجهةٍ قضائيةٍ مدنيةٍ يفترض حيادها إزاء كل طوائف المجتمع وثقافاته. وللأسف، لم يصادف هذا النهج الوصائي اعتراضاً أو تقويماً من “المجلس القومي للمرأة” الذي لا يعدو أداة تجميلية، مثل المجلس القومي لحقوق الإنسان، حيث يوظفهما النظام المصري ومؤسساته الأمنية مساحيق تجميل أمام مرآة المجتمع الدولي، ممثلاً في مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، فمنذ تم إنشاؤه، وإعلان خطة الدولة للتنمية المستدامة (رؤية مصر 2030)، لم ينجح المجلس في تحقيق الأهداف المنوطة به من “ترسيخ الاعتراف والإقرار بالقيمة الجوهرية لحقوق المرأة المصرية”، كما لم تسفر أهداف “بحث مدى فاعلية السياسات والتوجهات الحكومية المتعلقة بالنهوض بوضع المرأة” في تحسين أوضاع الناجيات من التحرّش والعنف الجنسي في مصر، بل لم يحرّك المجلس ساكناً أمام واقعة كشوف العذرية التي أجريت للشاهدات في قضية الاغتصاب الجماعي في فندق فيرمونت، ولم ينبس المجلس بحرفٍ أمام تحويل الضحية والشهود معاً إلى متهمين في قضية أخرى، رفعها محامو المغتصبين، الأمر الذي استجابت له النيابة بأن اتهمت الشهود بـ “تعاطي المخدّرات، التحريض على الفسق والفجور، التحريض على ممارسة اللواط والسحاقية، إقامة حفلات جنس جماعي، وإثارة مشكلاتٍ وهميةٍ تخص قضية العنف ضد المرأة ونشرها على السوشيال ميديا”. ومن ثم تم حبس الشهود احتياطياً وتحويلهم إلى مصلحة الطب الشرعي. وبهذا، صار كل حديث، ولو في “السوشيال ميديا” عن العنف الجنسي والتحرّش والاغتصاب، مسوغًا للاتهام بتأليب الرأي العام، وبالتحريض على الفسق والفجور، إلى آخره من الاتهامات التي عوقب بها شهود واقعة الاغتصاب في جريمة “الفيرمونت”. كما صارت مساندة النساء الضحايا/ الناجيات من تلك الوقائع مسوّغاً للحبس والاتهام. ويقع هذا كله على مرأى المجلس القومي للمرأة ومسمعه، من دون أن يحرّك ساكناً.

ويمكن تفسير تصرّف النيابة العامة في القضية، في إطار التوجهات العامة للمؤسسات التنفيذية والقضائية في مصر، فعلى الرغم من أن مكتب النائب العام المصري يكتظ بآلاف من قضايا التعذيب والعنف الجنسي، إلا أنه (النائب العام) قد قرر المضي في فتح باب التحقيق في تلك الواقعة خصيصاً، على الرغم من أن النيابة العامة قانوناً غير ملزمة بفتح التحقيق في جريمة الاغتصاب التي تمت في فندق الفيرمونت، فهي غير ملزمة بتوجيه الاتهامات، وتعد سلطتها التقديرية في هذا الصدد واسعةً، لأن القانون المصري يعتمد في العمل على التحقيق في القضايا على “مبدأ الملاءمة”، فلم يلزم النيابة العامة بتحريك الدعاوى الجنائية فى الجرائم التي ليست فيها خطورة إجرامية، أو القضايا التي تُعتبر مخالفاتٍ أو جنحاً قليلة الضرر، مثل تعاطي المخدّرات أو “ممارسة الدعارة والفجور” التي لا تسبّب ضرراً بالغاً للأشخاص أو الأموال، بخلاف جرائم القتل واختلاس المال العام والإرهاب.

التعذيب ودعم إفلات الجناة نهجان منتظمان تحت رعاية السلطات الحاكمة وأدواتها التنفيذية والقضائية في مصر

ومن ثم، يفيد حرص النيابة العامة على فتح باب التحقيق في الواقعة، وفتح التحقيق في البلاغات ضد شهودها في الوقت نفسه، توجهها إلى دعم إفلات المغتصبين من العقاب، بعدما نجح هؤلاء في “تشويه” الضحية والشهود معنوياً وأخلاقياً، واستجابت لهم النيابة العامة في هذا الصدد، بل زادت عليه، وتقمّصت دور المربّي الموجه لأولياء أمور الضحية والشهود، فيما يعتبر إدانة للمجني عليها وشهودها، ولا أدلّ على هذا من تخصيص مساحةٍ كبيرةٍ من بياناتها الرسمية للتوجيه والتقويم التربوي، ومن إيداع الضحية في دور الرعاية و”التقويم”، وإجراء فحوض العذرية لشهودها. وكأن الجريمة إنما وقعت بسبب دعاوى/ بلاغات فسق وفجور الضحية/ الشهود، وليس لإجرام المغتصبين وتعدّيهم الجنسي على الطرف الأضعف.

ولا يخفى أن هذا توجهٌ عام لدى النيابة العامة في مصر لدعم إفلات الجناة من العقاب، فعلى الرغم من تقديم آلاف البلاغات المتعلقة بتعذيب المختفين قسرياً، والمحرومين من الحرية تعسفياً، خصوصاً في أثناء الظهور الأول لهم أمام النيابة، إلا أن الأخيرة ترفض إجراء التحقيق في وقائع التعذيب هذه، استجابةً لسطوة جهاز الأمن الوطني، بل إنها تشكّك في الوقائع المروية، قبل التحقيق فيها، وتتهم الضحايا وتلبسهم ثوب الكذب والإفتراء على رجال الشرطة، وهو النهج الذي وثّقته “كوميتي فور جستس” في تقريرها الشهري لمايو/ أيار ويونيو/ حزيران 2020، والذي يتكرّر في نحو 106 وقائع تعذيب وثّقها التقرير النصف سنوي خلال الأربعة أشهر الأولى من العام الجاري. وقد لاحظت اللجنة الدولية لمناهضة التعذيب في الأمم المتحدة هذا النهج في تقريرها الصادر عام 2017، والذي أبرز بوضوح أن التعذيب ودعم إفلات الجناة نهجان منتظمان تحت رعاية السلطات الحاكمة وأدواتها التنفيذية والقضائية في مصر، وقد صدر التقرير بناء على نتائج التحقيق في سبعة بلاغات قدّمتها مؤسسة الكرامة (مقرّها في جنيف) للجنة الدولية لمناهضة التعذيب من 2012 إلى 2015، حيث تضمنت البلاغات 146 ادعاءً فردياً بالتعذيب في وقائع حدثت بين عامي 2013 و2014، ومعلومات تتعلق بشكاوى جماعية، وانتهى التحقيق إلى تأييد اللجنة المعنية دعوى مؤسسة الكرامة أن التعذيب أصبح نهجاً منتظماً ومتفشياً في مصر، في ظل دعم إفلات الجناة من العقاب.

المؤكد أن تنجح خطة النيابة العامة في دعم إفلات المغتصبين من العقاب في قضية الاغتصاب الجماعي في فندق فيرمونت

ومن ثم، من المؤكّد أن تنجح خطة النيابة العامة مجدّداً في دعم إفلات المغتصبين من العقاب في قضية الإغتصاب الجماعي في فندق فيرمونت، خصوصاً وأن تدخل المجلس القومي للمرأة والمجلس القومي لحقوق الإنسان، بدورهما المشين، قد أدّى إلى خوف الناجيات والشهود من الإدلاء بإفاداتهم، وانبرائهم للمدافعة عن أنفسهم ضد التهم التي وجهتها النيابة إليهم، بناء على بلاغاتٍ مغرضةٍ من محامي المغتصبين، كما أدّت بيانات النيابة العامة، ودورها في تحويل الضحية والشهود إلى متهمين، إلى إسكات أصوات الدعم لضحايا التحرّش والاغتصاب والعنف الجنسي ضد المرأة، خصوصاً في متنفسها الوحيد؛ وسائط “السوشيال ميديا”، الذي أصبح التحدث فيه جريمة بـ “تشويه الصورة العامة لمصر”، كما رصده تقرير حديث لصحيفة الغارديان البريطانية.

لا يزال طريق العدالة في مصر، للناجيات من جرائم التحرّش الجنسي والإغتصاب، بعيداً، يشتد ابتعاده كلما سعت السلطات التي تدّعي مساندة “المرأة” للهجوم على الضحية واتهامها بالفسق والفجور ومخالفة “قيم المجتمع المصري”، ولا يزال الطريق بعيداً كلما صارت “الشهادة” مسوّغاً للتنكيل بالناجيات ومن يساندهن، وكلما صار الحديث في المنصّات الفردية مسوّغاً للحبس والاتهام بتشويه صورة الوطن. وعلى الرغم من أن قضية “فيرمونت” ولدت بصيصاً من الأمل في التغيير، عندما واجهت الضحية وشهودها المجتمع، قبل مواجهة المغتصبين بجريمتهم البشعة، إلا أن هذا البصيص لم يلبث أن اختفى بعدما انحازت الدولة وأجهزتها القضائية ومجالسها إلى صف الجناة .. ما يعني أن التغيير لن يكون إلا من خارج المنظومة القائمة.

لمزيد من المعلومات والطلبات الإعلامية أو الاستفسارات، يرجى التواصل معنا
(0041229403538 / media@cfjustice.org)

آخر الأخبار

اشترك في نشرتنا الإخبارية!

كن أول من يحصل على أحدث منشوراتنا